فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة. وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم. والسرقة على الخصوص. والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة. لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس، وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب. وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته، من طريق الحلال والحرام على السواء! واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف، فيأمنوا جانبه، ويتعاونوا معه.
فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد؛ وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئًا، ولم تفته منفعة ذات بال.
أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصًا كبيرًا؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال، ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه. فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع؛ وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس. وفي طبيعة الناس كلهم- لا السارق وحده- أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة.
وأعجب بعد ذلك ممن يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر. كأن الإنسانية والمدنية أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته، وأن نشجعه على السير في غوايته، وأن نعيش في خوف واضطراب، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص!
ثم أعجب بعد ذلك مرة ثانية ممن يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية، كأن المدنية والإنسانية أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق؛ وأن ننسى طبائع البشر، ونتجاهل تجارب الأمم؛ وأن نلغي عقولنا، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا، لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه دليلًا إلا التهويل والتضليل!
وإذا كانت العقوبة الصالحة حقًا هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء، وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء. لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس. وطبائع البشر وتجارب الأمم، ومنطق العقول والأشياء. وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية. أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء.
إن أساس عقوبة القطع هو دراسة نفسية الإنسان وعقليته. فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد، وهي في الوقت ذات صالحة للجماعة، لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم، وتأمين المجتمع. وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة، فهي أفضل العقوبات وأعدلها.
ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع، لأنهم يرونها- كما يقولون- عقوبة موسومة بالقسوة. وتلك حجتهم الأولى والأخيرة. وهي حجة داحضة. فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابًا إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف، بل يكون لعبًا أو عبثًا أو شيئًا قريبًا من هذا.
فالقسوة لابد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم والله سبحانه وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله فهي تنكيل من الله رادع والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها لأنه يكفه عنها ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس إلا وفي قلبه عمى وفي روحه أنطماس والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد؛ لأن المجتمع بنظامه والعقوبة بشدتها والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد ثم يفتح الله باب التوبة لمن يريد أن يتوب على أن يندم ويرجع ويكف؛ ثم لا يقف عند هذه الحدود السلبية بل يعمل عملا صالحا ويأخذ في خير إيجابي فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد؛ ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد بل لابد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا فالنفس الإنسانية لابد أن تتحرك فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فإنها تأمن الارتداد إلى الشر والفساد؛ بهذه الإيجابية وبهذا الامتلاء إن الذي يربي بهذا المنهج هو الله الذي خلق والذي يعلم من خلق وعلى ذكر الجريمة والعقوبة وذكر التوبة والمغفرة يعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه وصاحب السلطان الكلي في مصائره هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير فهي سلطة واحدة سلطة الملك يصدر عنها التشريع في الدنيا ويصدر عنها الجزاء في الآخرة ولا تعدد ولا انقسام ولا انفصام ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء في الدنيا والآخرة سواء ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير} وفى سورة الفتح: {ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما} فقدم في المائدة ذكر التعذيب وآخرفى سورة الفتح وأعقبت الأولى بقوله: {والله على كل شيء قدير} والثانية بقوله: {وكان الله غفورا رحيما} فهذان سؤالان.
والجواب عن الأول: أنه لما تقدم آية المائدة قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا...} الآية وقوله: {والسارق والسارقة...} الآية وقد وقع في الآيتين ذكر تنكيل الطائفتين ممن حارب أو سرق مقدما فقيل في الطائفة الأولى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وألاجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} فهذا ما يعجل لهم في الدنيا ثم أعلم تعالى بوعيدهم الأخراوى وجزائهم إن هم وافوا على فعلهم هذا مستحلين ذلك المرتكب أو غير مستحلين إن أنفذ الوعيد عليهم وأعقب تعالى بذكر إقالتهم إن تابوا قبل أن يقدر عليهم بما أعطاه الاشتثناء وأشار إليه قوله تعالى: {فاعلموا أن الله غفور رحيم} وقيل في الطائفة الثانية: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ثم قال: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح} إذ أشار إلى من أقلع منهم تائبا وأصلح فإن الله يتوب عليه فقد تقدم في هاتين القصتين ذكر الامتحان قبل ما به رجاء الغفران وهذا في مآلهم الفدنياوى، ثم أعقب الآية التي أعلم فيها بانفراده بملك السماوات والأرض وأنه تعالى يعذب من يشاء فقد ذكر العذاب على المغفرة تنظيرا لما تقدم ومقابلة تطابق إذ كل ذلك بقره تعالى وسابق مشيئته فهذا وجه التقديم في آية المائدة.
وأما آية الفتح فقد تقدمها قوله تعالى: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا} وبالايمان رجاء الغفران وهو متشبث به كما أن العذاب مرتبط بالكفر ومناط به، فتقدم في ذهه الآية مثمر الغفران وهو الإيمان وتأخر موجب التعذيب من الكفر والخذلان، ثم أعقب تعالى بقوله: {ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فناسب بين الآيتين بالتناظر في الجزاءين من المغفرة لمن أناب والتعذيب لمن كفر وارتاب وبحسب مشيئته سبحانه وما قدر لكل من الفرقين أولا. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}.
بيَّنَ أنه لا يعذِّب مَنْ يعذِّبُ بِعَلَّة، ولا يرحم من يرحم بعلة، وإنما يتصرف في عبده بحق ملكه، وأنَّ الحكمَ حكمه، والأمرَ أمرُه. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. اخْتَلَفَ نَقَلَةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِيمَنْ نَزَلَ فِيهِمْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنِ اتِّصَالِهِمَا بِمَا قَبْلَهُمَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَلْيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ. زَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ قَتَادَةَ الرَّاوِيَ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، قَالَ قَتَادَةُ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ «أَيْ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا» وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَطَعَ أَيْدِيَ الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحَهُ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّارِ عَاتَبَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الْآيَةَ، وَفِي الْقِصَّةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى مُفَصَّلَةٌ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ إِبِلَ الصَّدَقَةِ كُلَّهَا فِي غُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، مِنْهُمْ مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ «وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ» وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ فَخَيَّرَ اللهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْتُلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ: إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ عِتَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَمْلِ أَعْيُنِ الْعُرَنِيِّينَ وَقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَتَرْكِهَا بِدُونِ حَسْمٍ؛ فَكَانَتِ الْآيَةُ تَحْرِيمًا لِلْمُثْلَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَرُوِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمَرَ بَسْمَلِ أَعْيُنِهِمْ وَقَطْعِهِمْ كَمَا فَعَلُوا بِالرَّاعِي الْمُسْلِمِ- وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «الرُّعَاةِ» بِالْجَمْعِ- فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَتَرَكَ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ خَاصٌّ بِمِثْلِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا، أَوِ الَّذِينَ غَدَرُوا مِنَ الْيَهُودِ، أَوِ الَّذِينَ خَدَعُوا النَّبِيَّ وَالْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِذَا تَمَكَّنُوا مِنَ الْإِفْسَادِ بِالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ عَادُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، وَأَظْهَرُوا شِرْكَهُمْ مَعَهُمْ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَأَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِمَا أَظْهَرَهُ الْعُرَنِيُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَرَوَوْا عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي تَطْبِيقِ الْآيَةِ عَلَى الْخَوَارِجِ، بَلْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ.